فالقضية موضع البحث ليست إشكالاً فلسفياً ولا مبدأً لاهوتياً، إنما هي قيم سلوكية ومعايير أخلاقية، في وسعنا أن نختبرها بالنـزول إلى أرض الواقع لنرى كيف تجسدت هذه القيم في كابل ومزار شريف بعد سكوت المدافع، فنعرف عن أي قيمة قاتلتم فعلاً، وقد جاء في الإنجيل عن السيد المسيح ( من ثمارهم تعرفونهم )!
إن الدستور الأمريكي - الذي هو التجسيد الماثل للقيم الأمريكية - ظل محتفظاً بقداسة الآثار الدينية في العصور الوسطى الغربية، حتى جرى عليه التعديلان الشهيران:
الأول: النص على تحريم الخمر.
والآخر: النص على نسخ هذا التحريم.
ومع أن التعديل الأخير يُعدّ مثالاً واضحاً لهزيمة القيم الأمريكية أمام سلطان الشهوة المدمرة، فإن هذه ليست القضية، إنما القضية أن القيم الأمريكية في أفغانستان انعكست تماماً، فقد بشَّر الفاتحون الصليبيون الشعب الأفغاني بإباحة الخمر وما يتبعها من الخبائث! وبالرغم من أن الانحراف ظاهرة بشرية إلا أن الذين استجابوا لهذا اللون من القيم كانوا قلة من الشعب الأفغاني، وفي الوقت نفسه أفصحت القيم الأمريكية عن نفسها بالبرهان المحسوس، حين عملت كل ما يتنافى مع الديمقراطية، بتسليط عصابات عميلة من أقليات عرقية ودينية ذات ماضٍ دمويٍّ طالما تحدثت أمريكا نفسها عنه. وسَعَت إلى محاربة قيم الفضيلة والرقي السلوكي في شكل الإغراء بالحرية!
واتضح أن حكومة طالبان أرقى قيماً من الذين حذفوا التحريم من الدستور الأمريكي، وأن شعب أفغانستان في استجابته للتحريم أرقى سلوكياً وأخلاقياً من الشعب الأمريكي الذي ابتهج بإلغاء التحريم، ولم يعد يخطر له على بال.
شهور ثلاثة فقط كانت كافية لسقوط القيم الغازية - على لسان وزير العدل في الحكومة المؤقتة في كابل -حيث أعلن تحت ضغط المطالبة الشعبية: أنه لا مناص من تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية التي كانت تطبقها طالبان بما في ذلك حد الخمر!!
وقد كان حِسّ زارعي المخدرات وتجارها في شم رائحة القيم الأمريكية أصدق من حِسّ كثير من المتعصبين لهذه القيم، فأولئك بادروا بالعودة إلى أفغانستان عقب الاحتلال الأمريكي، مستبشرين بمستقبل جديد لعملهم اللاإنساني وبانفتاح السوق الأمريكية التي هي أكبر سوق لهذا الوباء.
لقد قال برناردشو - في معرض أسلوبه الساخر من ازدواجية القيم الغربية- :
( أغْفِرُ لـنوبل اختراع الديناميت، ولا أغفرُ له الجائزة!! )
وهكذا يمكن القول بأن الشعب الأفغاني قد يغفر للأمريكان ضرب مستودعات الغذاء، واستهداف دور الأيتام وتصرفاتهم، باسم الحرب العادلة المزعومة مع الأسرى في قلعة جانجي وفي كوبا، ولكنه لن يغفر أبداً الاستطالة على القيم التي يؤمن بها , وتفضيل قيم وضعية انتقائية غير ثابتة ولا عادلة عليها، ومحاولة جره إلى حضيض القيم الأمريكية في الحرب والسلم سواء.
وبالتالي فإن العالم الإسلامي قد يفهم على مضض غطرسة الإدراة الأمريكية وتخبطها وتعسفها- باعتبارها نزعة فرعونية في كل امبراطوريات التاريخ - ولكنه لن يقبل إطلاقاً مزايدة المثقفين الأمريكيين على القيم الإسلامية، وتنصيب أنفسهم وعّاظاً له بهذا الشأن، لمجرد أن عدداً قليلاً جداً من المسلمين عملوا -بل متهمون بعملٍ يعتبر- جزءاً ضئيلاً جداً مما تفعله المؤسسات الحاكمة في أمريكا، في كل قارات المعمورة، وعلى مدى قرن كامل تقريباً.
مع فارق مهم للغاية وهو أنه لم يكن أحد من المسلمين معتدلاً أو متطرفاً يفكر في مهاجمة أمريكا قبل أن تنحاز إلى الكيان الصهيوني وتمده بكل أسباب الإرهاب والبطش، وقبل أن تهاجم أمريكا أكثر من بلد إسلامي وتنتهج تصنيف الدول الداعمة للإرهاب، ومحور الشر على أساس أن يكون المسلمون هم رأس القائمة وهدفها! وذلك ما جاء خطاب المثقفين ليكرسه تكريساً فلسفياً.
نحن لا نجزم أن ما كتب الستون نوع من الإسقاط النفسي، فربما كان مخادعةً لوخز الضمير حين يرى القيم تحتضر -ليس في وحشية الحرب فحسب- بل في المحاكم العسكرية، ومعاملة الأسرى، والتضييق على الإعلام، وحجب المعلومة الصحيحة عن الشعب -ومن ذلك أن يكون للقناة الإخبارية cnn نوعان من البث في وقت واحد، أحدهما: داخلي، والآخر خارجي- مما يذكّر بالإعلام في أوروبا الشرقية أيام الدكتاتوريات المكشوفة.
لكننا لا نستطيع أن نتجاهل أننا أمام حالة تشبه حالة الباباوات مع الأباطرة والملوك الأوروبيين -في العصور الوسطى- الذين شنوا الحملات الصليبية المتتابعة على الشرق الإسلامي.
ولقد استطاع البابا المعاصر أن يقدم للعالم الإسلامي اعتذاراً عن تلك الحروب، ونعتقد أنه كان ينبغي لهؤلاء المثقفين أن يسبقوا الزمن ويقدموا اعتذراً مماثلاً عما فعلته الادارة الأمريكية -وتفعله- بالمسلمين، ومن ثم يفتحون الباب للحوار والتفاهم بين الدينين والحضارتين.
لكنهم مع الأسف سلكوا الطريق الآخر! وربما احتاج الأمر إلى قرون لكي نسمع الاعتذار هذا إن كان ثمة من القيم ما يدعو لتقديمه أصلاً!!